الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

الحكيم - جل في علاه

قال الله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) سورة الأنعام - أّية (18)

هو تعالى (الحكيم) الموصوف بكمال الحكمة و بكمال الحكم بين المخلوقات, فالحكيم هو واسع العلم و الإطلاع على مبادئ الامور و عواقبها, و اسع الحمد, تام القدرة, غزير الرحمة فهو الذي يضع الأشياء في مواضعها, و ينزلها منازلها الائقة بها في خلقه و أمره, فلا يتوجه إليه سؤال, و لا يقح في حكمته مقال.

و حكمته نوعان:

أولهما:
الحكمة في خلقه, فأنه خلق الخلق بالحق و مشتملاً على الحق, و كان غايته و المقصود به الحق, خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام, و رتبها أكمل ترتيب, و أعطى كل مخلوق خلقه اللائق به,بل اعطى كل جزء من اجزاء المخلوقات و كل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته و هيئته, فلا يرى أحد في خلقه خللاً, و لا نقصاً, و لا فطوراً, فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى اخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن و الانتظام و الإتقان لم يقدروا, و أنّى لهم القدرة على شيء من ذلك و حسب العقلاء و الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه, و يطلعوا على بعض ما فيها من الحسن و الاتقان. و هذا أمر معلوم قطعاً بما يعلم من عمته و كمال صفاته و تتبع حكمه في الخلق و الأمر, و قد تحدى عباده و أمرهم أن ينظروا و يكرّروا النظر و التأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصاً, و أنه لابد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.

و النوع الثاني:
الحكمة في شرعه و أمره, فإنه تعالى شرع الشرائع, و أنزل الكتب, و ارسل الرسلليعرفه العباد و يعبدوه, فأي حكمة أجل من هذا, و أيفضل و كرم اعظم من هذا, فإن معرفته تعالى و عبادته وحده لا شريك له, و إخلاص العمل له و حمده, و شكره و الثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق, و أجل الفضائل لمن يمن الله عليه بها. و أكمل شعادة و سرور للقلوب و الارواح, كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الابدية و النعيم الدائم, فلو لم يكن في أمره و شرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات, و أكمل اللذات, و لأجلها خلقت الخليقة و حق الجزاء و خلقت الجنة و النار, لكانت كافية شافية.

هذا وقد اشمل شرعه و دينه على كل خير, فاخباره تملأ القلوب علماً, و يقيناً, و ايماناً, و عقائد صحيحة, و تستقيم بها القلوب و يزول انحرافها, و تثمر كل خلق جميل و عمل صالح و هدى و رشد. و أوامره و نواهيه محتوية على غاية الحكمة و الصلاح و الإصلاح للدين و الدنيا, فإنه لا يأمره إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة, و لا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.

و من حكمة الشرع الاسلامي أنه كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب, و الأخلاق , و الاعمال, و الاستقامة على الصراط المستقيم, فهو الغاية لصلاح الدنيا, فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم, و هذا مشاهد محسوس لكل عاقل, فإن أمة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين و أصوله و فروعه و جميع ما يهدي و يرشد إليه, كانت أحوالهم في غاية الاستقامة و الصلاح, و لما انحرفوا عنه و تركوا كثيراً من هداه و لم يسترشدوا بتعاليمه العالية, انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم. و كذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة, و الحضارة, و المدنية مبلغاً هائلاً, و لكن لما كان خالية من روح الدين و رحمته و عدله, كان ضررها أعظم من نفعها, و شرها أكبر من خيرها, و عجز علماؤها و حكماؤها و ساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها, و لن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم. و لهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من الدين و القراّن أكبر البراهين على صدقه و صدق ما جاء به, لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به.

و بالجملة فالحكيم متعلقاته المخلوقات و الشرائع, و كلها في غاية الاحكام, فهو الحكيم في أحكامه القدرية, و احكامه الشرعية, و أحكامه الجزائية, و الفرق بين أحكام القدر و أحكام الشرع أن القدر متعلق بما أوجده و كوّنه و قدرّه, و أنه ما شاء كان و ما لم يشاً لم يكن. و أحكام الشرع متعلقة بما شرعه. و العبد المربوب لا يخلو منهما أو من أحداهما, فمن فعل منهم ما يحبه الله و يرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان, و من فعل ما يضاد ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري, فإن ما فعله واقع بقضاء الله و قدره و لم يوجد في الحكم الشرعي لكونه ترك مايحبه الله و يرضاه. فالخير, و الشر و الطاعات, و المعاصي كلها متعلقة و تابعة للحكم القدري, و ما يحبه الله منها هو تابع الحكم الشرعي و متعلقاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق